فصل: تفسير الآيات (109- 116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (109- 116):

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} وضع أساس ما يبنيه {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه، والمعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى. والشفا: الحرف والشفير، وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً، والهار الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط، ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف، وألفه ليس فاعل إنما هي عينه وأصله (هور) فقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره {أَفَمَنْ أُسَّسَ بُنْيَانَهُ} شامي ونافع {جرْف} شامي وحمزة ويحيى {هارِ} بالإمالة: أبو عمرو وحمزة في رواية ويحيى {فانهار بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ} فطاح به الباطل في نار جهنم. ولما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها. قال جابر: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ} لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّع قُلُوبُهُمْ} شامي وحمزة وحفص أي تتقطع. غيرهم {تُقطّع} أي إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار، أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم {والله عَلِيمٌ} بعزائمهم {حَكِيمٌ} في جزاء جرائمهم.
{إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء. ورُوي: تاجرهم، فأغلى لهم الثمن. وعن الحسن: أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها فقال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد {يقاتلون في سَبِيلِ الله} بيان محل التسليم {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي تارة يقتلون العدو وطوراً يقتلهم العدو.
{فَيُقتلون وَيَقْتلون} حمزة وعلي {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدر أي وعدهم بذلك وعداً {حَقّاً} صفته، أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته {فِي التوراة والإنجيل والقرءان} وهو دليل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه. ثم قال: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانياً بباقٍ {وذلك هُوَ الفوز العظيم} قال الصادق: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
{التائبون} رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين، أو هو مبتدأ خبره {العابدون} أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق {الحامدون} على نعمة الإسلام {السائحون} الصائمون لقوله عليه السلام: «سياحة أمتي الصيام» أو طلبة العلم لأنهم يسيحيون في الأرض يطلبونه في مظانه، أو السائرون في الأرض للاعتبار {الركعون الساجدون} المحافظون على الصلوات {الآمرون بالمعروف} بالإيمان والمعرفة والطاعة {والناهون عَنِ المنكر} عن الشرك والمعاصي ودخلت الواو للإشعار بأن السبعة عقد تام، أو للتضاد بين الأمر والنهي كما في قوله: {ثيبات وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] {والحافظون لِحُدُودِ الله} أوامره ونواهيه، أو معالم الشرع {وَبَشّرِ المؤمنين} المتصفين بهذه الصفات.
وهمّ عليه السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى} أي ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك، ثم ذكر عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي وعد أبوه إياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله {لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] دليله قراءة الحسن {وَعَدَهَا أَبَاهُ} ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} من جهة الوحي {لَهُ} لإبرهيم {أَنَّهُ} أن أباه {عَدُوٌّ لِلَّهِ} بأن يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وقطع استغفاره {إِنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ} هو المتأوه شفقاً وفرقاً، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته كان يتعطف على أبيه الكافر {حَلِيمٌ} هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول لأرجمنك {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يخذلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الاجتناب، وأما قبل العلم والبيان فلا، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين، والمراد ب {مَّا يَتَّقُونَ} ما يجب اتقاؤه للنهي، فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف {أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ}.
{إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}

.تفسير الآيات (117- 129):

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
{لَقَدْ تَابَ الله على النبى} أي تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله {عَفَا الله عَنكَ} [التوبة: 43] {والمهاجرين والأنصار} فيه بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار {الذين اتبعوه في سَاعَةِ العسرة} في غزوة تبوك ومعناه في وقتها. والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق وكانوا في عسرة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد، ومن الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة، وبلغت بهم الشدة حتى اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء، ومن الماء حتى نحروا الإبل وعصروا كرشها وشربوه، وفي شدة زمان من حرارة القيظ ومن الجدب والقحط {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} عن الثبات على الإيمان أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه. وفي {كَادَ} ضمير الشأن والجملة بعده في موضع النصب وهو كقولهم (ليس خلق الله مثله) أي ليس الشأن خلق الله مثله {يزيغ} حمزة وحفص {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكرير للتوكيد {إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثلاثة} أي وتاب على الثلاثة وهم: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وهو عطف على {النبى} {الذين خُلّفُواْ} عن الغزو {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} برحبها أي مع سعتها وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه قلقاً وجزعاً {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور لأنها حرجت من فرط الوحشة والغم {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بعد خمسين يوماً {لِيَتُوبُواْ} ليكونوا من جملة التوابين {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} عن أبي بكر الوراق أنه قال: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة.
{ا ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} في إيمانهم دون المنافقين، أو مع الذين لم يتخلفوا، أو مع الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً. والآية تدل على أن الاجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم {مَا كَانَ لأهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} المراد بهذا النفي النهي وخص هؤلاء بالذكر وإن استوى كل الناس في ذلك، لقربهم منه ولا يخفى عليه خروجه {وَلاَ يَرْغَبُواْ} ولا أن يضنوا {بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} عما يصيب نفسه أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة {ذلك} النهي عن التخلف {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عطش {وَلاَ نَصَبٌ} تعب {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} مجاعة {فِى سَبِيلِ الله} في الجهاد {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا} ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم {يَغِيظُ الكفار} يغضبهم ويضيق صدورهم {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: لكل روعة سبعون ألف حسنة.
يقال: نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوؤهم. وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، وقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعد تقضي الحرب. والموطئ إما مصدر كالمورد، وإما مكان. فإن كان مكاناً فمعنى {يَغِيظُ الكفار} يغيظهم وطؤه {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي أنهم محسنون والله لا يبطل ثوابهم {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً} في سبيل الله {صَغِيرَةً} ولو تمرة {وَلاَ كَبِيرَةً} مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا} أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل فاعل من (ودى) إذا سال ومنه الودْيُ، وقد شاع في الاستعمال بمعنى الأرض {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} من الإنفاق وقطع الوادي {لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلق ب {كتَبَ} أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم.
{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} اللام لتأكيد النفي أي أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للإفضاء إلى المفسدة {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فحين لم يكن نفير الكافة فهلا نفر {مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير {لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في تحصيلها {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} وليجعلوا مرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم {إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} دون الأغراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة في المراكب والملابس {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ما يجب اجتنابه. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن التفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثراً من الجهاد بالنصال.
والضمير في {لّيَتَفَقَّهُواْ} للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيام غيبتهم من العلوم. وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه {ياأيها الذين ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} يقربون منكم {مِّنَ الكفار}. القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} شدة وعنفاً في المقال قبل القتال {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} بالنصرة والغلبة.
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} {ما} صلة مؤكدة {فَمِنْهُمْ} فمن المنافقين {مَن يِقُولُ} بعضهم لبعض {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه} السورة {إيمانا} إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين و{أَيُّكُمْ} مرفوع بالابتداء وقيل: هو قول المؤمنين للحث والتنبيه {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إيمانا} يقيناً وثباتاً أو خشية أ وإيماناً بالسورة لأنهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلاً {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف.
{وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} كفراً مضموماً إلى كفرهم {وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون} هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت {أَوْ لاَ يَرَوْنَ} يعني المنافقين وبالتاء: حمزة خطاب للمؤمنين {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما {فِي كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} عن نفاقهم {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} لا يعتبرون. أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام، ولا هم يذكرون بما يقع بهم من الاصطدام {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم، أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام {ثُمَّ انصرفوا} عن حضرة النبي عليه السلام مخافة الفضيحة {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} عن فهم القرآن {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} لا يتدبرون حتى يفقهوا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} محمد عليه السلام {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} شديد عليه شاق لكونه بعضاً منكم عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} على إيمانكم {بالمؤمنين} منكم ومن غيركم {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} قيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَإِن تَوَلَّوْاْ} فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك {فَقُلْ حَسْبِيَ الله} فاستعن بالله وفوض إليه أمورك فهو كافيك معرتهم وناصرك عليهم {لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فوضت أمري إليه {وَهُوَ رَبُّ العرش} هوأعظم خلق الله، خلق مطافاً لأهل السماء وقبلة للدعاء {العظيم} بالجر وقرئ بالرفع على نعت الرب جل وعز.
عن أبيّ: آخر آية نزلت {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} الآية.